[size="5"]إذا زهد الإنسان في الدنيا، وقام بين يدي الله؛ فعليه أن يقبل على قلبه، ويفتحه بكتاب ربِّه، ويطهِّره بالعلوم الوهبيَّة والأسرار القرآنيَّة، من البشر الذين هم في صورة الملائكة العلويَّة.
فهم بشرٌ؛ لكن الله اصطفاهم وجعلهم دعاة للخير على قدم سيد البشر، فمعهم العلوم الإلهامية التي تغسل النفوس، وتطهر القلوب من الحقد والحسد، والبغض والكره، والشحِّ والبخل، والأثرة والأنانية، وكل الصفات الإبليسية والحيوانية المردية، والتي هي حجب تمنع القلوب عن رؤية المكاشفات والأسرار الربانية:
واغسل فؤاداً بماء جمع صفا فهذا إليَّ يدني
كيف نغسل هذا الفؤاد؟بماء الغيب، وهو العلم الوهبي النازل في الحال من سماء فضل الله عزَّ وجلَّ.
وكان شيخ العلماء، وسلطان العلماء، العزُّ بن عبد السلام عندما يتحدث سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يخرج ويدعو الناس ويقول:
{ هلموا لتستمعوا إلى هذا العلم الحديث عهد بالله عزَّ وجلَّ }
وكانت سنته رَضِيَ الله عنه لأحبابه أن يقول لهم:
{ لا تحدِّثونا عن الآخرين، ولكن حدَّثونا بما فتح الله عزَّ وجلَّ بـه عليكم}
يعني لا تأذن لنفسك في التحديث، حتى يفتح الله عليك، ويرزقك العلم الخاص بك، فتتحدث عن الله، بما ألهمك الله عزَّ وجلَّ هذه العلوم هي التي تنظِّف القلوب، وتطهِّر النفوس
وفيها يقول إمامنا أبو العزائم رَضِيَ الله عنه عندما وقف أمام البحر الأبيض المتوسط، وكان يعرف ببحر الروم:
قليلك قد يطهِّر كلَّ جسمي يطهِّر بحر روم كلَّ رسمي
وقلبي لا تطهِّـره بحـــــار يطهِّــــره العليُّ بنيل علم
وهو العلم المكنون الذي يطهِّر(1)لكن متى يطهِّر العلم المكنون؟ بعد التسليم
لأنهم لم يشقُّوا قلب النبي حتى أرقدوه، ولم ينازعهم، ولم يعارضهم، ولم يمنعهـم، فلم يقل لهم مثلاً: ستقتلونني، ولكنه سلَّم(2) إذن لا بد من التسليم:
( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا )(65سورة النساء)
لا بد من التسليم الكامل وبعد التسليم؛ ينفع التعليم، وقبل التسليم فإن التعليم، نفعه عديم، حتى ولو مكث مع العارف عشرات السنين، فلا ينتفع به، لأن أول الانتفاع أن:( يُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا )
فلو أن هناك شكُّ في نفسه، أو حرج في ضميره أو قلبه؛ توقَّف، لأن أساس الانتفاع هو العقيدة، قال سيدي عبد الوهاب الشعراني رَضِيَ الله عنه وأرضاه في مننه الكبرى :{ إن إمداد المريد من شيخه؛ عن رســول الله صَلَّى الله عليه وسلَّم، يأتيه مدد رسول الله عن طريق شيخه ببركة الاعتقاد فيه، فإذا حرم الإعتقاد؛ حرم النفع ببركة شيخه }
لابد من التسليم التام ،وانظر إلى تسليم سيد الأنام في يد الملائكة الكرام
أخذوه، وأرقدوه، وشقُّوا صدره، وأخرجوا قلبه، فلم يشْكُ، ولم يتأوه، ولم يتوجع، ولم يتبرم، لأنه يعلم أنهم كما قال الله في شأنهم وهذا أيضاً حال العارفين بربهم:
( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ )
وإياك أن تظن أنه نسي ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (64سورة مريم)
أو تقول أذكِّر الشيخ ، ظناً منك أنه نسي هذا الأدب، أو نسي هذا الموضوع، فاعلم أنه لا ينسى، لأنه يمشي بأمر الله عزَّ وجلَّ. فعليك إذن أن تسلِّم كالحبيب الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، حيث شقُّوا صدره، وأخذوا حظَّ الشيطان وألقوه.
وكذلك العارفون والحكماء الربانيُّون إذا سلَّم لهم المريد قلباً وقالباً، على أن يكون التسليم بشرع الله، وعلى منهج كتاب الله حتى نُخْرِج من يسلِّمون أنفسهم للجهلاء بالله، أو لمن يدَّعون حالاً مع الله وهذا التسليم ، يجعل الرجل الصالح يلقي عصا روحه؛ فإذا هي تلقف ما تصطنعه النفوس، ويباعدك عن حضرة القدوس عزَّ وجلَّ:
( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) (45سورة الشعراء)
من الخواطر النفسيَّة، والخواطر الدنيويَّة، والخواطر الشيطانيَّة، وخواطر المعصية، فيأخذ الشيخ بحاله هذه الخواطر، ولا يأذن في ساحة قلبك إلا بخاطر مَلَكِيٍّ، أو خاطر رحمانيٍّ؛ فتمشي بأمر الله لما يرضي الله، وتصبح ممن قال فيهم الله:
( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) (65 سورة الإسراء)
ويمدُّه بالخاطر الملكي، والخاطر النوراني الرباني، والخاطر الروحاني، ويمشي بأمر الله لما يحبُّه الله ويرضاه؛ فتنكشف الحجب؛ حجاباً وراء حجاب.
فإذا كُشف حجاب النفس، أقبل هذا العبد بالكليَّة على طاعة الله؛ فتجده في كل أحواله وأوقاته مع الله؛ إما في ذكر، أو في علم، أو في عبادة، أو في طاعة، أو في خدمة لله عزَّ وجلَّ.
فإذا استدام هذا المدام وهذه الطاعة لها لذة أعلى وأغلى من لذة أي مدام يشربه أي إنسان في الوجود، يشعر بها أهلها، ويستطعمها القائمون بها فإذا واظب على ذلك، كشف حجاب الجسم عند النوم
فإذا نام؛ صعدت روحه إلى عالم الطهر والصفاء؛ فيرى في نومه ما يراه الأتقياء والأتقياء، والصالحون والأولياء رؤيا صادقة ولكنه يحتاج عندها إلى الرجوع إلى العارف؛ ليثبَّت قدمه؛ حتى لا يضلَّ في هذا المنزلق الخطير لأنه إذا تزايدت عليه الرؤيات؛ ربما يغترُّ فينضرُّ.
إذ لابد له من بيان وتأويل من رجل من الصالحين؛ حتى يثبِّته على النهج الصحيح للنبي العدنان صلوات الله وسلامه عليه. فإذا استدام هذا الحال، وراقبته عين العناية من الرجل الذي أقامه الولي الوال؛ فتح الله له عين سريرته، ويشعر أن في عينك كذ؛ فيخبرك عنه؛ فتتعجب؛ كيف رأى ذلك
وقد يحكي لك وقائعاً حدثت معك في النوم؟، أو في اليقظة؟، فتقول كيف عرف؟وهو بلسان الحال يقول
( نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) (3سورة التحريم)
وهذا هو الإلهام، فيتفضل الله عليه بهذا الإلهام؛ ثم يمنُّ الله عليه برفع غطاء وراء غطاء، حتى يكون من أصحاب الكشف التام، فيبصر في النور كما يبصر في الظلام، ويرى ما في القلوب كما يرى على صفحات الأجسام، ولا يشغله ذلك كله نَفَساً ولا أقل عن إقباله على الملك العلام سبحانه وتعالى.
حكم كثيرة وأحوال عظيمة
اللهم اجعلنا من أهل نظره ورضاه، واجعله ينظر إلينا في كل وقت وحين، نظر شفقة وحنان، ورضا وامتنان، نظراً يرفع حالنا، ويصحِّح قصدونا، ويضمن لنا السعادة في عاقبتنا
اللهم اجعلنا من أهل قربك وودادك، وأنزلنا دائماً وأبداً مع أهل إرشادك. ووفقنا لما تحبُّه وترضاه، واكشف عنا كل حجاب، حتى نكون من الناظرين إلى عليِّ الجناب، ومن الممتعين بالأحباب الذين يرفع عنهم النقاب، ويكونون مع الذين أنعم الله عليهم في الدنيا ويوم الإياب.[/size]
[size="3"](1)راجع: كيف يفتح الله بفتوح العلم الإلهامى على قلوب العارفين بمعانٍ لا تنته؟، واقرأ كيف تناول أستاذنا نفس الموضوع بفتح آخر، راجع الباب الأول صفحة 22 ، "حقيقة صلاة الله على عباده"- ( الناشر).
(2)انظر صفحة 38 بنفس هذا الفصل ، حاشية سفلية رقم (4) .[/size]
إشراقات الإسراء- ج2
[URL="http://www.fawzyabuzeid.com/downbook.php?ft=pdf&fn=Book_eshrakat_alesraa_V2.pdf&id=18"][SIZE="5"]منقول من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً[/SIZE][/URL]
https://www.youtube.com/watch?v=DZEP13KGnFQ
[IMG]http://www.fawzyabuzeid.com/data/Book_eshrakat_alesraa_V2.jpg[/IMG